جلست مع والدتي لأخبرها بأنني أنهيت قراءة عدد قديم من مجلة العربي ، و على الرغم من كثرة المقالات المشوقة إلا أنني لفتني عنوان مساحة ود لذاك الشهر” أمثال من الماضي لا تصلح للحاضر” ، لذا حوّلت الموضوع لسؤال حتى أعرف ما هو أول مثل قديم يطرأ على بالها ، لكن قبل أن تجيبني قالت لي الجملة التالية :”الأمثال تقال و لا يقاس عليها” ، سرحتُ قليلًا لأفهم المعنى ثم بحثت عن هاتفي حتى أتأكد من فهمي ، و المقصود بما قالت والدتي هو أنها لا تؤخذ بالمعنى الحرفي بل يُقصد بها الحكمة القابعة فيها، تركت هاتفي وسألتها مرة أخرى فبدأت عينيها بالبحث عن إجابة بين جدران مطبخنا وابتسمت و هي تقول: ” أقلب القدر على فُمها تطلع البنت لأمها”. بادرت أيضًا بسؤال زميلاتي في العمل و حصلت على إجابات اشعلت شرارات موافقة كبيرة بين السامعين ، و فتحت جروحًا قديمة ظننا أن الوقت لربما يشفيها ، لكن لم يكن شفاءً بل تكلُسًا احتاج الى كشط بسيط ليعود للنزيف.
أقلب القدر على فُمها تطلع البنت لأمها – أمي الحبيبة
لا يخفى على أي أحد يعرفني شخصيًا أنني أختلف كليًا عن والدتي ، نعم لنا من الصفات المشتركة كثير ، لكن إن لم أُشِر اليها و أقل هذه والدتي فلن تعرف أبدًا. أكثر ما يُخيفني في هذا المثل هو الحُكم المسبق عليّ و بناء شخصيتي في مخيلة الأخرين فقط من جلوسهم مع والدتي أو العكس ؛ أنا فتاة كثيرة الكلام لكن والدتي امرأة تميل للإنصات والحديث المطول مع من ترتاح معه ، أنا لا مانع لدي من المجادلة مع أي أحد ، لكن أمي تنتقي من تتجادل معه ، و الكثير الكثير من الاختلافات التي ستطول هذه الفقرة بشكل ممل إذا ذكرتها ( ما هو رائع هو تناغم شخصيتينا ؛ أنا الثرثار وهي المهدئ لسرعتي). لذا لا تحكم على فتاة أو فتى من أحد والديه أو العكس ، هنالك من الآباء من يُربي بكل اخلاص ليكبُر الأبن طالحًا و هنالك من الأبناء من يكبُر صالحًا و خلفيته طالحة، و طبعًا لا يمكننا أن ننسى ” من شابه أباه فما ظلم”.
مع الخيل يا شقرا – جدتي
ثاني أخطر مثل أخترته لهذه التدوينة، في عالمنا الحالي حيث المعلومات تتطاير هنا وهناك ، ثم يتناها الكثير المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي لترى الجميع ينساق خلفها موحدين الصوت بعبارة ” مع الخيل يا شقرا”. ” أن تموت مع الجماعة أهون” الكثير من الأمثال تحضنا على السير مع الجماعة ، مع التلميح المبطن بتعطيل الدماغ ، يمكنك عزيزي القارئ ان تبحث عن تأثير الجماعة في YouTube و ستنهال عليك التجارب الاجتماعية التي تثبت قوة هذا التأثير. أن لا اُحْضُضك على أن تكون واحدًا من هؤلاء المزعجين الذين يُخالفون فقط حبًا في الجدال و”الخروج عن المألوف” ، فقط أبحث قليلًا و أعْمِل عقلك قبل إتباع الجماعة ، إن كان ما قيل صحيح فتبعهم و إن كان خاطئًا فصدقني مت وحيدًا على حق و لا تعش غارقًا في الخطأ.
اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب \ العيل يجي ورزقه معاه – مُعلمة
أخطر مثل اخترته لهذه التدوينة ، و هو سبب من أسباب ظاهرة الإفلاس نهاية الشهر! ( أنت تعرف نفسك يا قارئ هذه السطور)، يُحاججنني الكثير في هذا المثل لأني دائمًا عندما اسمعه على لسان الغير انفعل بشكل مبالغ فيه، ويتم نعتي بغير المؤمنة ( خصوصًا مع مقولة العيل يجي ورزقه معاه) ، لكن لا دخل لهذا بذاك، كلنا لنا رزقنا المكتوب و لا أحد يأخذ رزق غيره وهذا كلام ليس بجديد لكن الجديد يا معشر المؤمنين هو الاخذ بالأسباب. يعي الجميع أن الأوضاع الاقتصادية الان ليست كسابقها و لا تحتاج محلل مالي حتى تتبين التغير الكبير في الأسعار و زيادة تكلفة المعيشة ، إضافةً لهذا الضغط المجتمعي الذي يُحيط بالأطفال فيريدون كل ما يمتلكه اصدقائهم ، نعم ستكون فرصة كبيرة لك لتعلمهم القناعة لكن الى متى ستستمر قبل أن تنكسر عزيمتك ، وتتحمل طاقة فوق طاقتك وتشتري ما يزيد على راتبك. شخصيًا أنا مع التخطيط قبل الأنجاب ، فكر في الموضوع من جميع النواحي ، و اترك العواطف فقط لساعة واحدة ، غير اولوياتك في حال قررت الأنجاب أو أعد ترتيبها. بعدما اخذت بكل الأسباب توكل على الرزاق، فلا يُعقل أن تصرِف كصرفِ العزاب و لك خمسة من الأطفال ، ثم تذهب لصلاة العشاء وترفع يديك داعيًا المولى ليرزقك ، قال الله تعالى { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ}1 . خُلاصة القول، لا تصرف ما في الجيب بدون ميزانية واضحة ، و لا تنشر رعيتك ليبحثوا عن رزقهم في الشوارع ، يقول ابن القيم: لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى، والأسباب لا تعطي النتائج إلا بإذن الله تعالى، والذي خلق الأسباب هو الذي خلق النتائج.
لا تطالع فوق ترى تنكسر رقبتك – طبيبة أسنان
بادرت الطبيبة بإجابة أخرى لكنني ناقشتها فيها و كانت :” مد رجولك على قد لحافك” ، عللت اختيارها بأنه يدعو الى الإحباط و عدم التطلع للأفضل ، فجادلت بقولي :” أعتقد أنكِ فهمتيه خطئًا ، فأنا أرى أنه يدعو لتقبل الحال الذي انت فيه و يذكرنا بكلمة نسيناها في زماننا هذا ألا وهي القناعة” ( التي دار ذكرها سابقًا)، عندها دارات الطبيبة بكرسيها ثم قفزت قائلةً عنوان الفقرة الحالية، بدأت الموافقات تنهال عليها فدفعها هذا للتعقيب :” هذا المثل هو أساس عدم تطلعنا للكثير ، نحن دائمًا نرضى بالقليل خوفًا من الكسر” ، كان تعليلها واقعيًا بشكل مؤلم. عندما نشّطت الطبيبة ذاكرتي بهذا المثل، اعتراني مباشرةً شعور لربما هو سبب نسياني المتعمد لهذا المثل ألا وهو شعور الخنوع و الدونية، وَقْعْ كلمات هذا المثل يرسُمني و كأنني قزم أمام عملاق يُحدق فيّ من أعلى و ينتظر ان أقوم بأي حركة حتى يهرسني بأصغر اصبع لديه فيُنهي وجودي.
” مد رجولك على قد لحافك”، لم تكن زميلتي هي الوحيدة التي فسرت هذا المثل على انه محبط، بل أيضًا في مساحة ود الخاصة بمجلة العربي فسرته وفاء شهاب هكذا، قرأت في كتاب الأمثال العامية لأحمد تيمور باشا شرحًا بان المقصود به : ان لا يتجاوز المرء حده خصوصًا في المصرف ، و أيضًا في مجمع الأمثال قيل أنه الحث على اغتنام الاقتصاد ، فهو لم يُقصد به قتل الطموح بل القناعة بالموجود و شخصيًا أعتقد أن الخطوة الأولى للمضي قدمًا وتسلق سلم النجاح هو أن يكون لك أرض صلبة تضع عليها هذا السلم و أن تكون أرضك الصلبة هي قناعتك بما لديك.
الكثير منا يريد المزيد ولا ضير في هذا ، انا دائما في صف المثابر الذي يصبو للعلا ، الذي له رقبة من حديد فينظر الى ما شاء في سماء الله الواسعة ، لكن لدي مشكلة مع نسياننا للقناعة ، فهل لديك هدف نهائي؟ هل في كل خطوة تقوم بها للظفر بالعلا تجلس قليلًا وتشكر ؟ الأهم من ذلك، هل تحب حياتك الأن في هذه اللحظة ؟ لقد مررت بالكثير من الفيديوهات التي تدعيّ بأن هدفها هو التنمية الذاتية فتستعمل أسلوب “اكره ما انت عليه حتى تصل لما تريد” ، الكره وقود قوي و سيشعلك حتمًا ، لكنه وقود خطير فقد يُشعلك لدرجة الاحتراق الذاتي. لذا أحضِر لحافك المناسب لك و نم جيدًا ثم أستيقظ مبكرًا و انظر للأعلى و ابدأ بالتسلق.
اسأل مجرب و لا تسأل طبيب – صيدلانية
* زميلتي الصيدلانية و أنا أيضًا
هذا جُرحي الذي ينزف . أصبح هذا المثل شبحًا يطاردني على الدوام ، خصوصًا بعد تخرجي و تعاملي مع المرضى مباشرةً. يأتيني المريض حاملًا معه اسم دواء لا يقدر على لفظه فأسأله :”هل نصحك به الطبيب أو حتى الصيدلاني؟” ليُجيبني :” كلا خالتي استعملته و تحسنت في يومين” ، سأصمت هنا. تكمن خطورة التصديق الكامل لهذا المثل في كمية المعلومات المغلوطة التي تنتشر بسهولة على مواقع التواصل أو حتى في بحث Google ، و حتى ان كانت المعلومة صحيحة ، قد تكون في السياق الخطأ أو تكون أنت غير مؤهل لاستعمال ما قرأت لسبب صحي خاص بك. نحمد الله على التصحيح الذي بدأ أخيرًا يُتداول ” اسأل مجرب و لا تنس الطبيب” لكن للأن الكثير لم يقتنع به، لا ملامة على أحد ، فالنظام الصحي في الكثير من الدول صعب الوصول اليه أو يستغرق ساعات أو لنقفز قليلاً ونقول سنوات للحصول على موعد طبيب ، وعندما تحصل عليه تُنصح بشرب الماء. لكن صدقًا ، يمكنك اتباع النصائح الطبية من مؤثرين مؤهلين علميًا و لديهم شهادات تُثبت ذلك خذ بالنصائح التجميلية و نصائح تحسين نمط الحياة ، لكن رجاءً إذا كان لديك مرض مزمن أو عوارض غريبة و جديدة عليك ، رجاءً مرة أخرى، لا تبحث و أنتظر دورك للحصول على نصيحة طبيب.
أمثال لا تفارق لساني
” لا حظت برجيلها و لا خذت السيد علي” إحدى أكثر الامثال امتعًا ، قصة هذا المثل اختصارًا : كان هنالك امرأة متزوجة من رجل جيد ، لكنها وقعت في حب رجل آخر ألا وهو السيد علي فطلقت زوجها و حدث ما حدث بينها وبين السيد علي فقالت له : تزوجني ، فرد عليها : لما و قد حصلت على ما أريد ، لذا خسرت المرأة كل شيء. أحب هذا المثل جدًا واكرره في كل مرة تظهر لي إحدى فيديوهات ” التنمية الذاتية” التي تدعوك لترك وظيفتك و فتح عملك الخاص “أحصل على الحرية المالية” ، المشكلة ليست في الدعوة، لكن فيمن يُصدقها ، وغالبيتهم من الشباب الحديث التخرج الذي لا خبرة له بسوق العمل و يريد مالًا وفير في وقت قصير ( نعم هنالك نماذج نجحت ، لكن انظر جيدًا في قصصهم لم يكن الامر سهلًا البتة و أكثرهم عمِل سابقًا و كانت تجارته شيء جانبي). ” أتمسكن حتى تتمكن” كن مسكينًا حتى تمسك زمام الأمور ، احب تذكير نفسي بهذا المثل مع الأناس الصعبة حتى يمر الموضوع ، و ستدور الأيام و عندما يسقط الجمل ستكثر سكاكينه أو لربما أنساه و أقول : أنت بحالك و أنا بحالي.
هنالك الكثير من الأمثال الباقية التي تصلُح لكل زمان و مكان ، ليست كل الأمثال سيئة بل هي تذكير جميل و مختصر سريع لدروس حياتية علينا جميعًا تعلمها ، فبدلًا من محاضرة طويلة عن أهمية التجاهل و الابتعاد عن المشاكل يمكنك القول ” الباب الي يجيك منه الريح سده و استريح” أو حينما تواجه عمل صعب ذكّر نفسك بقول ” اعمل حاجتي بإيدي و لا أقول للكلب يا سيدي” ، لكن مع الأسف يستخدم أيضًا كثيرون ” إن كان لك حاجة عند الكلب فقل له يا سيدي” أكتفي بأن أعيد على مسامعهم رد أدهم الشرقاوي:” هذه الأمثال هي التي جعلتنا حفنة متملقين وجعلت الكلاب يصدّقون أنهم حقا سادة!”. راجع الأمثال التي تقولها باستمرار، و لا تكرر كل ما تسمع بدون وعي ، لا تكن شقرا .
المصادر المُستعملة :
- مجلة العربي – العدد (772) – اصدار (3-2023) \ مساحة ود صفحة 178
- تشبيه الأمثال بين الرمزي والفعلي
- مجمع الأمثال [ الميداني ، أبو الفضل ]
- مع الخيل يا شقرا ، منى خليفة الحمودي
(1) سورة آل عمران آية 159 .
- كتاب شفاء الضرر بفهم التوكل والقضاء والقدر ، أبو فيصل البدراني – عبر المكتبة المكتبة الشاملة
- كتاب الأمثال العامية – أحمد تيمور باشا