أمّن حياتك

جلست بجانب والدتي و تنهدت قبل أن اطرح سؤالي :” سنة كاملة ، اقدم فيها تأمينات و للأن لم أفهم ما هي ؟” شعرتُ بنظرات والدتي المُستغرِبة فنظرت إليها بانتظار إجابة مُتأكدةً بكونها جارحةً قليلًا :” ألم تتعلمي كل هذه الأشياء في المدرسة ؟ اذكر انك درستِ مادة تجارة ؟” هززت رأسي موافقة :” نعم ، لكن كانت مقدمة بسيطة و بالكاد تكشط السطح عن حفرة الطين العميقة للتأمينات” ضحكت أمي و كانت مستعدة لمغادرة المطبخ لكنها توقفت للحظات قبل أن تقول :” لماذا جاء ببالك هذا الموضوع” ابتسمت ؛ لأنني كنت بانتظارها لتفتح لي المجال فقلت :” دعيني أروي لك قصة بطلها شخص لنسميه “سماح “.

الأكل في الشبعان خُسارة

كانت ليلةً مُسالمة في الصيدلية حتى وصلتني وصفة لمريضنا سماح ، أدخلت رقم الملف في “System ” المستشفى ليظهر لي انه مريض مؤمَن. قرأت الوصفة مرة أخرى و امسكت قلمي لأكتب الكميات التي سيُغطيها التأمين و أستثني المنتجات الغير مؤمَنة ، و كانت قطرات ترطيب العين إحداها (شركات التأمين لها سياسات معروفة لدينا ، و نحن مسبقًا نعرف الشركات التي تستثني الملطفات \ الدموع الصناعية\ مُرطبات العين ، بل في بعض الأحيان تستثني أنواع معينة من الأدوية). انتهيت من التحضيرات و جهزت رصيد حتى يُدفع مبلغ المرطب. شرّف سماح الصيدلية ، فبدأتُ بشرح طريقة استخدام الأدوية و بين سطور شرحي رميت بسعر القطرات ، فإذا بانتفاضة تحصل كمن سمِع توًا بخبر وفاة حبيب له ، بدأ يُصر ، بل استنكر قلة علمي بمنصبه و شدد على تشابه خلفياتنا العلمية. صدقًا لم تكن هذه المرة الأولى التي أواجه هذه النوعية من الانهيارات ، لذا أعطيته الرد الدبلوماسي الناجح دائمًا :” سأعطيك علبة الأن و سأقدم بأوراقك للتأمين و اذا تم القبول ، تستلم بقية الكمية ( علبتان الى ثلاثة علب ، لان مدة العلاج شهر) أما في حالة الرفض فيجب عليك دفع سعر القطعة المأخوذة”. دعني عزيزي القارئ اخذ لحظة حمدّ بأن الصيدلية غير مفتوحة بالكامل و مُسيجة بالزجاج ؛ لان الرجل إنهار ، لذا قررت ان آتي بالحل الثاني و هو :” يمكنك الانتظار و سأقدم الأوراق الأن ، لكن وجب التنويه فلربما يأخذ وقتًا” اخرج الرجل هاتفه غاضبًا و بدأ بحملة اتصالات شرقية غربية ، اخذت وصفته متغندرةً ( ليست فضاضة مني ، لكنه كان مؤذيًا بشكل لا يوصف ! و ابسط ما يمكنني فعله هو أن لا أركض لإرضائه). عدت للصيدلية و كنت على وشك البدء، ليأتي مرة أخرى و يطلب أن اعطيه الكمية المتفق عليها و الباقي سيتسلمه بعد التقديم على التأمين ، قرأت عليه الكميات و هنا “كان لازم نتدخل !” ، عزيزي القارئ حفظًا لخصوصية سماح ، لن أذكر كل الأدوية بل سأكتفي بذكر طريقة الاستخدام و نوع التعبئة ؛ لأنها ستوضح المشكلة هنا: قطرة دوائية : قطرة واحدة لكل عين مرتين في اليوم لمدة شهر ، و مرطب لجفاف العين : قطرة واحدة لكل عين كل اربع ساعات لمدة شهر [ علبة الدواء عبارة عن وحدات فردية صلاحيتها تكون 12 ساعة لعدم احتوائها على مواد حافظة ، الشكل مرفق أسفل الفقرة].

*الكمية في هذه العبوة الصغيرة هي = 0.45 مليليتر ( يمكنك التأكد من الحساب باستعمال عامل الحساب ) 0.45 * 20 = 8 قطرات في الأنبوبة الواحدة ، تُقسم على عينين = 4 استعمالات في اليوم ، كل أربع ساعات تُساوي ستة مرات في اليوم إذًا سيحتاج الى أنبوبتين في اليوم، العلبة الواحدة تحتوي 20 أنبوبة و مدة العلاج 30 يوم.

و الأن عزيزي القارئ بما أنك عرفت أهم النقاط ، لننتقل الى مربط الفرس في هذه القصة ، سماح طلب تسعة علب من المرطب و علبتان من القطرات الدوائية الأخرى لشهر واحد فقط! و كان تعليله أن هذه القطرات لاستعمال واحد فقط ( لا بأس لربما ترك هذا القسم في أيام دراسته ، يمكنه العودة الى أحدث إصدار من BNF ) ، في تلك اللحظة تمنيت لو انه لم يشاركني خلفيته العلمية ، نظرت له بعدم تصديق لكن لم يكن في بطاريتي الأخلاقية ما يكفي لمواصلة الجدال بأدب معه ، لذا تركته يذهب و قلت سأقدم للتأمين و الكُرة في ملعبهم. أتى الصباح مُحملًا بروائح الإيجابية ؛ لأن التأمين سيُنصفني ، فإذا بهم يضربون بالمنطق عرض الحائط و يوافقون على الكمية كاملةً ، لذا اتصلت بهم ، متسائلةً لا شاكيةً ، لتثريني الموظفة بمعلومة مهمة :”الطبيب من يحدد ، لذا مهما كانت الكمية سنوافق عليها” ، أخذ المريض سماح الكمية ، و زارنا مرة أخرى ليُفرغ الرفوف على حِساب التأمين.

سيدي القاضي ، أنصفني

أنا بالطبع أخذت الأوراق و ذهبت للطبيب لعله يكتب الكمية الصحيحة على الوصفة حتى نُغير قرار التأمين ، و بما أن المريض أخذ الكمية فهذا يدل على أن المحادثة لم تجري مثلما أحببت :

الكاتبة : كيف حالك ؟ المريض الذي جاءك بالأمس يُطالب بكميات غير معقولة من القطرات ، هل يمكنك تحديد العدد الصحيح في الوصفة ؟

الطبيب: هل رفضوا ؟

الكاتبة : لا ، بل وافقوا على الكمية ، لكنه أكثر مما يحتاج ، انظر لقد حسبت الكمية التي يحتاجها ، ثلاث علب فقط من المرطب و علبة واحدة من القطرة الدوائية .

الطبيب: إذًا ما دخلنا ؟ دعيه يأخذ الكمية ؟

صَمَتْ و لم أرد عليه ، لم اعرف ما أقول و الإجابة واضحة ! اردت أن اصرخ ” هذا خطأ و ربما حرام ! ” كيف تأخذ اكثر من حاجتك ، هل توزعها على عائلتك !

الطبيب: انظري ، لديك كمية كبيرة و الصيدلية تربح اذا أعطيتِ الكثير لذا لم يخسر احد هنا ، أليس الموضوع كله بالربح و الخسارة؟.

ابتسمت و شكرته لأنني تعلمت شيئًا . عُدت للصيدلية وجلست في صمت حتى عدت للمنزل.

سمعت سابقًا بأن “إن فسد الراعي ، فسدت الرعية” لكن كانت المرة الأولى التي أشهد هذه المقولة بحذافيرها ( أعرف ما تفكر به قارئي العزيز ، لكن دعنا من ذلك في الوقت الراهن) ، بالطبع سيتبادر للذهن لماذا لم تذهبي للمسؤول؟ اجابتي هي: كمية الرفض الذي واجهته من زملائي ؛ اجمعوا على انه تضييع لوقتي لأنه بالطبع سيرغب ببيع المنتجات مادامت تُورد مدخولًا ، وصدقًا لم ارد مواجهة الحقيقة و أُحبط أكثر من احباطي الحالي. قد تظن عزيزي القارئ أن الرعية ستنتفض لنصرة الحق ، لكن مع الأسف قوة الراعي قد تتخذ أشكالًا عدة خذ هذه القصة التي حصلت بعد قضية سماح بشهر أو أكثر : أطل عليَّ ليلًا أبٌ درست معالمه مستعينةً بعلم الفراسة لأخرج بنتيجة أنه شخص محترم و وقور ، لتصلني الوصفة التي كانت لأبنته الجميلة ، الاب لديه تأمين و يعمل في مكان مرموق ، أخرجت الدواء فإذا بالفتاة الصغيرة تقول : أبي لدينا من هذا لم أنهه ، ضحكت وقلت حسنًا يمكنك المواصلة عليه و كنت على وشك ارجاعه لمكانه ليوقفني الأب بقوله : ” كلا دعينا نأخذه احتياطًا ، بالإضافة انه مجانًا ” سكتت ابنته فلا كلمة فوق كلمة الأب و إلا سُميت عاقة ، كيف ستكبر ابنته يا تُرى ؟

: أنا لم اؤذي أحدًا

إن كنت لا تعتبر نفسكَ أحدًا ، فيُمكنك تخطي هذه الفقرة. لطالما آمنت بأن التصرفات الصغيرة ، الا واعية ، و الرمادية التي نقوم بها يوميًا ؛ تؤدي بنا الى أن نصبح أشخاصًا سيئين ، فما فعله الرجل ليس حرامًا بشكل واضح ( لربما يوجد رأي يختبئ بين سطور كتب العلم) أو منافٍ للقانون ، بل سيُجادلني الكثير بأنه حقه. هذا النوع من الأفعال، التي أقوم بها شخصيًا في بعض الأحيان ، كالصمت عن معرفة شيء خوفًا من أن يُستعمل ضدك ، السكوت عن الحق في حضور من يُطعمك ، أخذ الفائض عن حاجتك ، و غيرها الكثير من الأفعال ، تُشكلنا بشكل بطئ نحو أن نصبح سيئين تمامًا فلا صلاح لنا ، إنها كقطرات الماء الصغيرة الغير مؤذية لكن متواصلة ، تنقط قطرة قطرة على “الإسفلت” ، يومًا فيومًا حتى تحفره بعد مرور السنين. لا يوجد عادةً من يؤنبنا على هذه الأفعال إلا صوتٌ صغيرٌ في أعماق أعماق أرواحنا نتجاهله أحيانًا كثيرة ؛ لأن الحياة تستدعي و لأن مشكلة هذا الصوت أنه خافت أما نحن فاعتدنا الصراخ ، و بمرو الوقت يخفت حتى يختفي و إعادة إحيائه أقرب للاستحالة ، فما الحل؟

سؤالي ليس مجازيًا ، بل حقًا أتساءل ما الحل؟

في كل يوم نحن نكتشف حلولًا جديدة لمشاكل لم تكن موجودة ، لكننا نتجنب المشكلة الكبيرة التي تنام و تأكل معنا ؛ بل قد نقلق إن اختفت لبعض الوقت. أنظر كيف اخترعت البشرية الآلات كُنا نرسمها كخيال علمي و في آن الوقت نضحك على لافتة تقول ” أرجع الفائض من حاجتك لغيرك”. قد لا يترتب أي اجراء قانوني على هذا النوع من الأفعال لذا أنت تأمن العقاب فتسئ الادب ، و أيضًا لربما تُقنع نفسك بدرجة أقرب للهلوسة بأنك على حق ؛ لأنك تعمل بجهد كبير في وظيفتك فتستحق أن تستغل كل ما أُعطيَ لك ( لكنك تأتي متأخرًا ، تؤخر مصالح الناس ، لا تتطور بل فقط تقوم بالحد الأدنى حتى لا تُطرد).

خِتامًا لهذهِ الفقرة ، أُريد أن انشر الوعي بوجود هذا المصطلح : احتيال التأمين” ، إحدى أنواعه التي ذكرتني بموقفنا هنا هي خداع التأمين الصحي ، وجدت هذا النص في موقع محامي بولاية تكساس الأمريكية : “Drug pricing fraud is when a physician dishonestly prescribes unnecessary medication to a patient in order to profit from the sale” ، الترجمة بما معناه هو عندما يصف الطبيب أدوية لا داع لها فقط ليستفيد من المبيعات . لكن دعنا من ذلك فقد يتحجج الطبيب بعدة كلمات لاتينية بأن المريض لديه حالة تستدعي لكميات كبيرة جدًا من مُلطف العيون ، لكن ماذا عن من يستلم أدوية على حساب الحكومة -ولا يحتاجها- فقط ليجمعها حتى لو فسدت , المهم أن لا يخسرها. كيف تمسك هذا النوع من الاحتيال بالجرم المشهود-ادعوا الله أن تقع عينا محامي بارع على هذه التدوينة-.

إن كان لك حق تكلم

إن كان لسماح و الأب حق ، فأدعوا الله أن يُسامحني على هذهِ التدوينة ، لكنها قد تكون موجهة لسماح أخر أو أب أخر أو لك قارئي العزيز. إن خطر على بالك تساؤل أو شككت بشيء اسأل ؛ فالصمت خجلًا يُكلفك الكثير. المثاليات التي نضحك عليها أو حتى نستنفر ممن يفرضها علينا ؛ تبقى وعلى رغم أنوفنا مهمة لبقائنا ، لن نصل لها و نحن على علم بذلك ، حتى المُتعبين من المثالية التي تؤرق منامهم و تحبط عزائمهم مقتنعون أنهم لن يصلوها لكنهم يُكذبون أنفسهم الى أن تُفرج. المُحزن أن غيظي من تلك التصرفات لا ينبع من مثاليتي الزائفة ؛ بل من قناعتي أن هكذا أفعال من الطبيعي أن تكون مستنفرة لكن من حولي يَدعونها تنساب كالماء من تحت الجسر ، سابقًا كانت المعايير للمثالية عالية تُهلك العلماء و الأدباء فانتقدوها حتى انحطت لدرجة أن الأفعال الصحيحة الطبيعية المفروضة كالأمانة ، إماطة الأذى ، الإخلاص في العمل ، و الاحترام ، أصبحت مؤشرات لتفردك و مثاليتك العالية!

لكن لا يقنط المسلم من رحمة الله ، و الخيرون لا يزالون يروون عطش الأرض بالأعمال الصالحة. مرَّ علّي المرضى الذين اشتروا الدواء بمالهم و زاد عن حاجتهم فأعادوه قائلين : أعطيه لمن يحتاجه بلا مقابل ، فكم تثلج هذه الأفعال صدري. لنراجع أفعالنا الصغيرة التي لا نلاحظها و لا داعي للتغير المفاجئ السريع ، لنأخذ الموضوع بخطوات صغيرة لكن بتركيز و همة كبيرة فلا تُبنى الجبال الا بالحصى.