من شبَّ على شيء شاب عليه
استيقظتُ متأخرًا اليوم ، كانت الثامنة والنصف صباحًا ( عادةً اظل مستيقظة بعد صلاة الفجر) ، تفحصت الغرفة لأتذكر انها غرفتي و راجعت نفسي لأتذكر اسمي ، تركت غرفتي كما هي و توجهت مباشرة نحو المطبخ بحثًا عن أمي. سمعت أصوات قرقعة قادمة من المطبخ لأجد امي تُعيد الكؤوس الى مكانها في “الكاونتر” بعد غسلها، سحبتُ كرسي المائدة فشعرت بوجودي و قالت :” أخيرًا استيقظتِ ، لم أحبب ايقاظك قلت لربما كنتي متعبة و إنها اجازتك” ضحكت وقلت :” في الواقع هذا النوم الزائد ما يُتعبني حقًا ” ، أدخلت أمي الكأس الأخير وقالت :” دائمًا ما أقول هذا لأخيكِ، النوم الزائد سيُتعبك و يسبب لك الصداع ” ، نظرت قليلًا نحو الطاولة و لأصدقكم القول كنت أفكر في القهوة التي احتاجها حتى استجمع افكاري لكن تسلل سؤال صغير لا علاقة له من بين شفتي :” هل تعتقدين أنني أُضيع شبابي؟” ، توقفت أمي عن ترتيب المطبخ بعدما انتهت من الكؤوس و واجهتني بطريقة درامية قليلًا :” يا ستّار ، ليش تقولين هيج؟” ، ضحكت على ردة فعلها اللطيفة :” أقصد ، من في عمري يستغلون صِغر سنهم في السهر و أكل ما يطيب لهم ، اللعب ، استكشاف الحياة أو لديك النوع الأخر المنجز ، الذي قام بعشرات التجارب و قرأ بالفعل مِئات الكتب ، هل أنا المخطئة؟ ، ما الذي ينبغي علينا حقًا فعله في سن الشباب؟” فكرت أمي قليلًا و قالت :” ابحثي”.
أنا في العشرين ، إذًا أنا شابة
شباب ، لغويًا معناها الحداثة و البداية ، الشباب هو بداية الحياة الفعلية في نظري ، لقد أُعطيتَ الأساسيات في الطفولة و الأن عليك أن تبدأ. أختلف الكثيرون في تحديد هذه المرحلة عمريًا ، لكن تلاقت آرائهم في أنه من عمر الثامنة عشر و حتى الخامسة و الثلاثين هي مرحلة الشباب ، فلا انت مراهق طائش و لا بالغ ناضج. طبعًا سيقول من يقول أن لا وجود لشيء أسمه مراهقة ، وانه مصطلح حديث ، لكن في زمننا هذا لزم وجود هذا المصطلح ، فلا يصلُح ان نقيس على أزمان قديمة ، لربما نستلهم منها وهذا محبب لكن من الصعب إعادة إحيائها بحذافيرها. لربما تعاقبت علينا السنين وتغيرت علينا المُناخات ، لكن المبدأ واحد أليس كذلك ؟ نحن كبشر نريد المضي قدمًا ، ان نتطور و نصنع حضارة تليق بنا ، لماذا ؟ لإن هذه هي صِبغتنا و نحن خُلقنا هكذا ، لذا كشباب ما هو طريقنا للمضي قُدمًا؟
لم اكتب هذه التدوينة حتى اقارن بيننا و بين عظماء أنجزوا المستحيل “على مقاييس اليوم” و كانت أعمارهم هي اعمارنا عندما تخرجنا من الجامعة، فمثلًا لن أقول :” انظر لسُليمان القانوني و إنجازاته ، اصبح خليفة المسلمين في السادسة و العشرين ، قاد أمة كاملة ، وانت تنام حتى الواحدة ظهرًا !”. نعم في بعض الأحيان ،و خصوصًا عند قراءتي لسيرة أي عظيم إسلامي أو حتى اجنبي عن الإسلام ، أشعر بتأنيب الضمير ينهش عظامي ، كيف وصلت لهذا العمر ولم أحقق شذرة مما حققوه ، لكن أعود لوعيي و انظر لحياتهم ، الحياة سابقًا ( سابقًا جدًا ، فسليمان القانوني ولد 1494 ميلاديًا) ، كانت تلك المرحلة مرحلة غزوات، نجاة ، و توسيع ، لكن الان نحن في مرحلة رخاء ، فهل هذا النوع من الضغط مطلوب؟
أظن يا قارئي العزيز أنك الأن تبحث عن هدف هذه التدوينة ، وكما يقول خبراء صناعة المحتوى ، تبحث عن المشكلة التي انا خلقتها فيجب أن اعطيك حلًا حتى يكون وجودي الافتراضي ذا منفعة لك. صدقًا هدف هذه التدوينة ( والكثير من تدويناتي السابقة و إن شاء الله اللاحقة) هو التساؤل ، لأنني حقًا أرى اننا فقدنا هذه الفضيلة ، نعم ، عندما أملك إجابة قاطعة أو رأيًا محمودًا سأشاركه ، لكن هنالك تلك الأسئلة التي يجب أن تُطرح و الإجابة عنها ستكون : مرور الوقت . لذا قارئي ، لربما سنعود لهذهِ التدوينة و نقرأها بصوت عالٍ لشباب الجيل القادم و عندها ستكون لدينا حكمة كافية لكن ليس حل جازم لمشاكلهم الشبابية.
حُميَّا الشَّباب
عودُ ثقابٍ واحد كافٍ لإشعال حزم من الاعواد الأخرى. الانفعال ، الحركة المتواصلة ، و اللهيب الغير منطفئ هي الصفات الأسطورية التي حُلِم بها منذ كتابات هيرودوت عن ينبوع الشباب ، لكنني لم اصادف أي منها ، بل اذا ابديت أي منها قيل عني ” مفرطة حركة” أو الأسوأ “ اوفر” . قضيت معظم سنواتي الجامعية كمنصتة و هو تغيير كبير في شخصيتي ( الأن عدت لطبيعتي) ، عندما تكون مُنصتًا تكتشف الكثير ؛ لان فمك يشعر بالفراغ فيعمل عقلك عوضًا عنه، كنت اجلس بين اقراني و كنا نأتي بسيرة طالب مجتهد و نراه في كل مكان ، حرفيًا كل مكان ، لا يخلو اجتماع هو ليس فيه و لا صورة، حتى لو كان ظله ظاهرًا فيها سيكون موجودًا ، صدقًا كنت انجر معهم و اضحك على النكت التي تَطَأُهُ. أود الاعتراف اني نضجت كثيرًا منذ تخرجي و انا نادمة على ما فعلت ، فذاك الفتى هو المستغل الحقيقي لشبابه ، و انا الأن احذو حذوه ، و أن تصِل متأخرًا خيرٌ من أن لا تصل. ان تعرف ماذا تريد و تسعى إليه عارفًا أو جاهلًا بآراء الاخرين فيك هو النجاح بعينه و ليس الوصول للهدف ، النجاح هو ذلك الشغف الذي يُرهقك صباحًا ، فتصل الى وسادتك ليلًا لا تقوى على السير في درب الذكريات المؤلمة بل تستسلم للنوم مباشرةً.
شعلة الشباب في خطر ( نعم عُدت للمبالغة المطلوبة) ، اجلس مع من هم في عمري و برودة المكان تكاد ان تُكسر اهدابي! المخيف حقًا هو قوة السحب التي تجرك لتنضم لتلك المناطق الباردة ، لربما لن نجرب قوة سحب الثقب الأسود لكن هذه القوة لربما تكون مقاربة لها. اجلس قليلًا معهم فلا أقوى على حمل نفسي لجلب كأس من الماء ، فلماذا يحصل هذا ؟ انا متأكدة قارئي العزيز من انك اسررت الى نفسك الإجابة ” وسائل التواصل الاجتماعي” و بالطبع لها تأثير كبير ، لكن هناك مصطلح اعجبني و أحببت أن أشاركه معك ، أزمة مقتبل العمر. ببساطة ، هي مجموعة هواجس تصيبنا بعد تغيير كبير في حياتنا ( خذ على سبيل المثال التخرج من الجامعة) و تلتف هذه المشاعر حول عدم اليقين بالوضع المهني ، العاطفي ، والمالي الخاص بك ، تخرجت ، و فجأة أنت بالغ عليك أن تواجه الحياة بنفسك ، لذا يتوقف جريك المتواصل من شبح الرسوب و الفشل في المواد ، لتقابل حائط الحياة العملية. تجلس امام هذا الحائط ممسكًا قلمك الرصاص مقاس أثنين ، تتباطأ نبضات قلبك ؛ فلا أحد يلحق بك ، لذا تركن للزاوية فتبرد.
هُنا سأعطي رأيًا و ليس حلًا ، المراهقة ، الفترة العمرية المستحدثة التي لو أُعطينا فيها الارشاد الصحيح لكانت واقيةً لنا من هذه الازمة ، عندما كنت في الثالثة عشر لم اتعلم أي شيء عن الجامعة و كيف ستكون ، تعلمت بالاكتشاف بينما كنت فيها و للأن يسألني اخي عن أشياء لا علم لي بها . مقترحي بسيط ، تخصيص حصة و لو أسبوعية حيث يتكلم فيها المعلم عن أول مرة اخرجَ فيها رخصة قيادته ، فتح حسابه البنكي و الأهم من ذلك حياته الجامعية. أيضا مشاركة سلبيات النضوج ، الوحدة ، فقدان الأصدقاء ؛ فأن تعرف هذه الأشياء مسبقًا خير من ان تجربها و تبكي عليها بينما تحاول ان تخرج منتصرًا بكرسي في مادةً جامعيةٍ ما .
كيف أغوص في ينبوع شبابي مرة أخرى؟
عند كتابتي لهذه التدوينة راجعت نفسي كثيرًا ، هل هذا هو الوقت الصحيح لكتابتها؟ انا لازلت في بداية الشباب و من الأن “أفتي” فيها ، لكنني اجبت نفسي بإجابة حقيقةً “افحمتني” : انا مثلك قارئي العزيز ، لم يمسك أحد بيدي و يرشدني نحو الطريق المعبد نحو النجاح ، و فكرة ولادة هذه المدونة هي أن اعصف الأفكار من هنا وهناك و أجمعها لنتعلم منها ، حتى أحفزك أنت فأتحفز أنا فنصل الى المراد ( أيًا يكن)، ولربما نعود الى هذه التدوينة و نبتسم بنعومة متذكرين كمية الضياع التي كنا فيها. أولًا خذ قلمك مقاس أثنان و اكتب على الحائط ( الحائط السابق الذي ارتطمت به بعد التخرج) كل الأفكار الممكنة التي تستطيع بها أن تعبر من خلاله أو لربما من فوقه و تنادي أحدهم اذا كانت لديك هذه النِعمة، ليساعدك في تحطيمه حتى لا يكون عائقًا بين شخصك الأن و سابقًا ؛ فالربط بينهما مهم ، انت تحتاج لتجاربك السابقة و روحك الطفولية حتى تواصل. بعد كتابة الأفكار ، ابدأ بتطبيقها ،هنا انت تحتاج للدعم القديم المنسي لذا عد للخلف ، للداعمين الأوائل والديك و اصدقائك الذين نسيتهم ، يمكنك العودة لمدرسيك و تسألهم عن طرقهم في عبور هذا الجدار. اجمع من الماضي و انظر الى الأرض الحاضرة التي تحتك ، فكلها موارد تنتظر منك أن تستخدمها. اسأل ثم اسأل ، و ابحث عن السؤال قبل ان تطرحه ( الأسئلة كقوة يمكنك استعمالها). الان حاول تحطيم الجدار ، قد تبدأ ببطء فترى ثقوبًا صغيرة تكونت و ينفذ منها الضوء الخافت ، انظر من خلاله ثم حاول ان توسعه ، لا تستعجل في التحطيم ؛ فأنت لا تريده أن يسقط عليك ، لذا خذ وقت فعندما تحطمه رويدًا رويدا سيهترئ من تلقاء نفسه فلا تحتاج الى قوة هائلة لهدمه فقط دفعة بسيطة. هدمته ؟ لقد انتهت مرحلة الشباب و الأن أنت بالغ كامل لديه مسؤوليات اكبر لكنك مرتاح لأنك أعتدت عليها ، لهذا طلبت منك أن تأخذ وقتك في التحطيم لأنه يشعل فيك شرارة و عليك المحافظة عليها لوقت لاحق ، لأنه صدقًا قد تفقد شبابك عمريًا وجسديًا ( ليس الجميع) لكنك تقدر أن تحافظ عليه روحيًا.
هل سأرتاح ؟
لي مقولة أضحك دائمًا عند ترديدها ” الراحة فالقبر” ، نعم هي مبالغ فيها ، لكنني شخصيًا لا أستلذ الراحة إلا بعد تعب. تخيل معي عزيزي القارئ ، حياتك كلها راحة ، اعلم أنك ستهز رأسك قائلًا :” يا ليت” لكنك تقول هذا بعد تعب اليوم و انقضائه ، فأنت تحتاج الى الحركة و التفكير الذي يتبعه الإنجاز. استمعت مؤخرًا الى “بودكاست” عقل غير هادئ لمبارك الزوبع ، تحدث فيه قليلًا عن كمية الوقت المتاح لنا في أيام المدرسة و كيف أنه كُله راحة و لعب ، لذا لم نُقدر أهميته بل كان الطبيعي بالنسبة لنا ، أما الأن مع كل المسؤوليات الجديدة أصبح وقت الراحة و الجلوس مع الذات أقل بكثير لكن بِجودة و ملذة أعلى. الجدية مهمة في هذه المرحلة ، لكن المرح هو ما يُميزها ، لذا لا تنسى أن تعدُل بينهما . يجب أن تتعلم الفرق بين تضييع الوقت و المرح ، تضييع الوقت كلمتان تتنكران حتى لا تُكشف هوية أصلهما ألا وهو الهروب : الهروب من المسؤولية ، من العمل ، من العلاقات ، و من أي فعل صعب عقليًا كان أم نفسيًا ، التصفح المُلبد للعقل على “TIkTok ” هو أكبر مثال. أما المرح ، فهو الراحة بعد التعب ، كيوم عمل عالي الإنجاز يلحقه كوب قهوة مع ضحكات الأصدقاء بدل الموسيقى.
سنة سعيدة لكل مواليد يناير
مواليد الشتاء البارد ، نحن الأروع.. صدقني قارئي العزيز، ليس من قبيل الصدفة أن اكتب هذا الموضوع مع اقتراب يوم ميلادي فلطالما كان هذا اليوم ثقيلًا لكن ليس مُنهكًا لصدري. في كل سنة يمر فيها عيد ميلادي اسأل نفسي : هل سأشعر بالنضج ؟ هل سيكون كشعور نزلة البرد ، فُجائي المنشأ ، في ليلة تكون بخير ثم تستيقظ صباحًا فإذا بأنفك يسيل و عينيك تفيض. لكنني اكتشفت أنه يحدث ببطء ، فبعدما قرأت ما كتبت في مخططاتي السابقة ، ضحكت بصوت مسموع على طموحاتي و افكاري التي الأن أراها سطحية جدًا ، وبين ضحكاتي تلك استوعبت أنا التي كتبتها لكن الأن أضحك عليها؟ هنا عرفت أنهُ لم يحصل في يوم وليلة ، لأنه بقراءتي لكل مخطط سنة بعد سنة تغيرت افكاري خطوة بخطوة و قل ضحكي على افكاري حتى وصلت الى السنة الفائتة و لم اضحك ، بل تذكرت كل الأشياء التي ارغب في فعلها و اعجبني كمية الأفكار التي ارغب في تحقيقها. لذا يمكنني القول كنت شابة و الأن أنا شابة لكن في الجزء الثاني من فصل شبابي ، مع معلومات أكثر بقليل عن الحياة و شهادة جامعية.