الدرس الأول في القوة : لا تعتذر

حدث جدال بيني وبين أخي و تعالت الأصوات حتى وصل النقاش ذروته ، فبدأت الأصوات بالخفوت الى أن وصلنا للصمت، مرت قُرابة الساعة ، وذهبتُ الى والدتي فرأيتها تتصفح الأنستغرام ، أدخلت رأسي بينها وبين هاتفها وقلت :” موضوعي الجديد سيكون عن الاعتذار” هزت أمي رأسها موافقةً ثم افترقنا بعدها كلٌ الى غرفته. مرت ساعتان بالتمام، لذا نزلت من غرفتي لأنني اشتقت لأمي، فرأيتها أكملت صلاتها للتو و عندما رأتني قالت :” موضوعك عن الاعتذار، لذا هل ستعملين بما تقولين وتعتذري لأخيكِ ، استعمالك لبعض الالفاظ كان غير مناسب” ، عدلت من جلستي وقلت :” وهذا تمامًا ما سأكتب عنه ، من بدأ المشكلة؟” ردت أمي :” أخوك” ، هززت رأسي بالموافقة وأكملت:” أنا أخطأت لأنني سمحت له بأن يُشعل الغضب في داخلي ، كنت قابلة للاشتعال و هو فقط رمى عليّ كبرتيه صغيرة، لذا طبعًا سأعتذر لكن عليه هو أن يبدأ إن كان لي عنده قدر و مقام ” بدأت أمي بطوي سجادتها بينما قالت :” بالطبع سيفعل”.

ما نعرفه عن الاعتذار

جميعنا نعرف ما هو الاعتذار ؛ هو البدء بكلمات الأسف ثم تقديم حجة ( إن وجدت) لنفي الذنب أو تبريره ، نحن نقوم بالأخطاء بشكل يومي تقريبًا ، لكن ليست كل الأخطاء تحتاج الى جلسة اعتذار وتبرير ،فعندما تكون موظفًا جديدًا أو طالبًا للعلم ستكون الأخطاء ملازمةً لك ، بل وعلى العكس عليك ان تتقبل حصولها و لا تحارب نفسك بالركود والجمود خوفاً منها لأنك كيف ستتعلم؟ ( لكن اجتهد في التعلم و كما يُقال باللهجة الخليجية لا تمصخها). لكن هنالك تلك الأخطاء التي لا يهم ان كنت طالبًا أو مديرًا ، صغيرًا أم كبيرًا ، فيجب عليك تقديم الاعتذار في حال وقوعها ، و من باب التعديد وليس الحصر : عندما ترفع صوتك على أحدهم وتقلل من شأنه امام الاخرين ، تتهم احدهم قبل التأكد ، نسيان مهمة طُلبت منك ، والكثير من المواقف التي يشترك فيها عامل واحد ألا وهو ضر الاخرين بغير قصد ( لأنك إن كنت قاصدًا فهذه التدوينة ليست لك ).

لِماذا لا نعتذر ؟

كثيرًا ما سمعت أناسًا مقربين مني يتباهون بقلة عدد المرات التي اعتذروا فيها ، بل و يُغردون بمواقفهم الفقيرة خُلقيًا و كيف تملصوا منها بلا اعتذار ! كعادتي تناقشت معهم فإذا بإحداهن ترد عليّ:” إن اعتذرت سيرونني ضعيفة ، يكفي أني فتاة ، إذا أخفتهم سيضعون لي قيمة” نظرت لها مطولًا و لأصدقك القول عزيزي القارئ هنالك صحة في كلامها ، ففي زمننا هذا ان كنت لطيفًا وضِعت في أخر الصف ،و إذا بدأت بالصراخ تراجف الجميع و حملوك على الأكتف ، لكن فداحة الوضع لا يجب ان تُنسينا الضوابط الأخلاقية التي حثّنا عليها ديننا. من الموقف البسيط المذكور أعلاه ، يمكننا ربط بعض النقاط و معرفة ما هي الأسباب التي أدت بنا لوضع كلمة ” أنا أسف ” على رف المحرمات :

  1. المُعلمين الأوائل – الآباء و الأمهات، حيث تبدأ أولى خطوات التربية ، طفل لم يرى والده يعتذر لوالدته قط ، عندما يتعارك مع اخوته لا يُطلب منه الاعتذار والتبرير لذلك ، بأنه نوع من الحب الأخوي و أن لا ضرورة له فهل نحن أغراب؟ (اتعارك ويه أخي و بعد نصف ساعة نذهب لشرب القهوة على حسابي)، نعم اشتداد النقاش واختلاف وجهات النظر “في المعقول” شيء و العِراك شيء أخر ، لا بأس ان يحتدم النقاش بينك وبين أخوتك و يخف بطبيعة الحال ، لكن العِراك و إشراك الجيران في عراكِم مع التقاذف بأقسى العبارات التي تُحفر في الصدور لن يمحيها كوب قهوة. الطفل إن لم يُعلم منذ نعومة أظافره بأن يعتذر عندما يؤذي غيره “مهمًا كان” لن يفعلها في كِبره.
  2. فن اللامبالاة، حضرتك صرختْ على موظفة المقهى التي لن تراها مجددًا، فلماذا تعتذر؟ عدم تقدير مشاعر من حولك أو محي وجودهم من عقلك لأنهم ليسوا شخصيات أساسية في حياتك بل هم “كومبارس” يُستعاض بهم لملء فراغ المشاهد اليومية ، يُعطيك الاحقية بأن تقول ما تشاء ، لأنك تعلم ان غالبيتهم لن يردوا عليك خوفاً على وظيفتهم أو تمضيةً ليومهم، لكن رِفقًا ، فأن الله يُمهل و لا يُهمل و سيأتي اليوم الذي تكون فيه أنت الكومبارس لأقوى مشهد إهانة شهده مسرح الحياة!
  3. لكل أُمة فرعون ، الانسان الذي لا يخطئ ” السوبرمان” ، الحكيم العارف لكل شيء ، تخفى علينا اسرار الحياة نحن العاديون و لا يعلمها إلا هو ! كُلنا مع الأسف لدينا شخص لمع اسمه في عقلك بمجرد قراءتك للوصف السابق ، هذا الكائن الغير عادي يرى أن كل شيء يفعله لسبب حتى اخطائه ، و لديه تبرير لكل فعل حتى لو اهانك و لم يعط ادنى اهتمام لمشاعرك ، و سيستنكر ردة فعلك و يصفك بالحساسية. يُخلق هذا الانسان مثلنا ، لكن البيئة التي شكلته حولته لهكذا شخص ، الله وحده العالم بكمية إما التبجيل و النفخ التي حصل عليها في طفولته أو كمية المهانة و التهميش التي لربما لازمته حتى بلوغه .
  4. الي يعرفني يفهمني ” ، فكرة اجتماعية اتفق عليها الجميع ، هُنا يشرح متبعو هذه الفكرة ان من يحبك بصدق سيبرر كل افعالك بأنها حب و اهتمام حتى و ان كانت قاسية فهي لمصلحتك ، لنفرض ان من تحب شخص صريح و انت أحببت هذا فيه لذا ستبرر له انحدار اخلاقه فالتعامل معك و لا تطالب بأي اعتذار و إن سألك احدهم أو حاول أن يوعيك ترد بزجر :” أنتم لا تعرفونه ( ترا قلبه طيب) “. حقيقةً لا أحد طيب بقدرك أنت عزيزي ، من يحبك حقًا سيعتذر و إن كنت أنت تحب “خناقك” فهذا شيء يرجع لك ، لكن رجاءً لا تغرد في كل محادثة بمعلقات مدح لذاك الشخص و استر على نفسك.

“شكرًا” أصبحت “أنا أسف” الجديدة

إن كان اغتيال ولي العهد النمساوي هي شرارة الحرب العالمية الثانية ، فهذه هي شرارتي لكتابة هذه التدوينة. مررت بأكثر مما قد أحصي بمعرفتي في الأرقام بمنشورات على مختلف منصات التواصل تدعوك لاستبدال كلمة أنا أسف بكلمة شكرًا ؛ حتى تبدو أكثر ثقةً بنفسك. أُفضل أن نرسم سويًا سناريو لطيف لكيفية عمل هذه التنقية الحديثة لتقوية الثقة بالنفس، أنت جالس في مقهى ولديك موعد في تمام الساعة السادسة مساءً ، وقد رتبت جدولك وشاركته مع زميلك الذي تنتظره و اتفقتما عليه بحيث تقضي مع زميلك ساعتين من العمل ، ثم تشارك عائلتك باحتفال عيد ميلاد أخيك في تمام الساعة الثامنة، وصلت قبل موعدك بخمسة دقائق حتى تطلب القهوة وتجهز المكان ، مرت الدقائق الطِوال ، حتى وصل زميلك في تمام الساعة السابعة دخل عليك بقوله :” السلام عليكم ، شكرًا لانتظاري” ، ثم استغرق عملكما حتى التاسعة ( حاشى لله أن تذكره بمواعيدك فستكون قليل ذوق) ، وصلت للمنزل و اذا بالحفل قد انتهى و اخوك ينتظرك بمفرده، ما رأيك بقوة شخصية زميلك؟

عدم احترام المواعيد والتعدي على الوقت الشخصي لأحدهم ليس شيئًا تشكر الناس عليه بل تعتذر لأنك سلبته منهم ، هذه الموجة التي تزعم أنها تنشر ثقافة الشكر والايجابية و نبذ السلبية و من ضمنه الاعتذار، مُعرفةً إياه بانه شيء سلبي ، ثم نستغرب لماذا حتى الأن نستصعبه . ” شكرًا ” التي أخذت محل الأسف عند الخطأ تأخذ أشكال عديدة مررت بها خصوصًا عندما يتعلق الأمر بنصائح للمتزوجين ، فكثير من النصائح توجه المرأة نحو التزين و تحضير طبق للزوج كنوع من الاعتذار ، وتوجه الزوج نحو شراء هدية و تطييب الخاطر بكلمة طيبة ، و كل هذه النصائح رائعة لكن ليس لكل الأخطاء ، و كلمة أنا اسف التي تُقال بصدق مع تقديم التعويض أقوى وأفضل ( نعم أنا غير مرتبطة و لربما سأغير رأيي لاحقًا إذا كانت الحجج المقدمة لي أقوى من الحجج التي لدي). الاعتذار يُطيب القلب و يُطمئن من يقف امامك بأن له قيمة في حياتك ، و أهم ما في الاعتذار هو التأكيد على عدم إعادة الخطأ مرة أخرى، وأقتبس من الدكتور يوسف كيوان ” الاعتذار ليس حل عندما تقـرر تكـرار نفـس الخطأ بعد كل اعتذار.

صيادو الاعتذارات

طبعًا هنالك في كل زمان و مكان من يحب الصيد في الماء العكر ، الذي يجلس في اطراف الغرفة ينتظر أن تزل في كلامك او افعالك و لم ينتبه لك احد إلا هو ، فيعيد ما قلت حتى يستلم منك اعتذارًا. هؤلاء الفئة أيضًا يوضعون مع الجبناء الذين يخافون الاعتذار ؛ لانهم يبحثون عنه ظنًا منهم أنه تنزيل لمقام من يتعذر، تراهم يزينون الاعتذار على انه فضيلة و يشجعون عليه بل ولا تستغرب ان استعملوا كلمات هذه التدوينة بحذافيرها حتى يثبتوا نقاء نيتهم. انظر عزيزي القارئ ، هؤلاء الناس يسهل تميزهم، فهم أولًا حديثو سلطة ، قبّلوا الاقدام للحصول عليها ، او لربما صنعوا سُلطة لأنفسهم ( أصبحوا أباء أو أمهات) ، في حياتهم كلها لم يُعتذر لهم أبدًا ، لذا يريدون أي شعور بالقوة حتى لو كان مزيفًا. هل ستعطيهم إياه عزيزي القارئ؟ كلا؛ يمكنك بعد ان تكتشفهم أن تبتعد عن مُجالستهم ، دعهم يتكلمون كثيرًا و تحول لمنصت فقط ( هذا هو الحل الوحيد لو كانوا مع الأسف أحد والديك) ، اعتذر لهم علنًا بقولك : “عذرًا لأنني ارهقت مشاعرك المرهفة، لربما تناسبك مناقشات أخرى حيث تتوافق قدراتك مع جمهور غيرنا” . مع الأسف كثرتهم هي التي ضرت فضيلة الاعتذار ، التي ويجب التذكير ذُكرت عدة مرات فالقرآن الكريم و قد مررت بالآيات عزيزي القارئ فلا تتجاهل هذه الحقيقة ، وكون هنالك من يستمر في نعت هذه الفضيلة بالضعف و لو كثروا ، لا يعني صحتها !

وخيرهما من يبدأ بالسلام

درسنا في المرحلة الابتدائية الحديث الشريف عن الخصام ، وكعادة الأشياء التي نتعلمها في طفولتنا تدخل من أذن ثم نكبر فنرى المجتمع فنُخرِج ما تعلمناه من الأذن الثانية. في رأيي إن اخطأ احدهم في حقك ، وكل الأصابع تتوجه عليه بأنه هو المخطئ لكنه يكابر ، فتقدم بالاعتذار لكن كن واضحًا ، اعتذر عن ردة فعلك و ما بدر عنك من تصرف لربما بالغت فيه ، و ركز عن نقطة أنه هو المخطئ في حقك لكنك بدأت بالسلام فقط لتكون نقطة على نهاية سطر علاقتكما ( لأنه أسمح لي عزيزي القارئ ، لا يعقل أن تظل معه و هو لا يرضى بالاعتراف بالخطأ). الاعتذار تواضع ، وكثير منا من يُعرف نفسه بأنه الطيب المتواضع ، قال الحسن البصري في التواضع الحقيقي : ” هو أن تخرج من بيتك فلا تلقي أحدًا إلا رأيت له الفضل عليك أنه خير منك” ، الاعتذار هو تصالح مع الذات ، ان تُسلم بأنك لست إنسانًا كاملًا و قد تقع في الخطأ ، إن قمت به بخالص مشاعرك ستقوي علاقتك مع من تحب ، فأنت بهذا تريه معزته و ندمك على الخطأ ، لكن إن كان كبريائك السلبي أعز عليك ، فمت وحدك ورحِمك الله.

المصادر المُستعملة:

  • كتاب الاعتذار ثقافة و دين- الدكتور يوسف عبدالغني كيوان
  • لغات الاعتذار الخمسة – مصطفى حسني
  • من كتاب هذه أخلاقنا حين نكون مؤمنين حقا – محمود محمد الخزندار