اعتدلت في جلستي على ” الكَاوَنْتَر” فنظرت لي والدتي بابتسامة وقالت: راح يشتغل المسجل، نظرت للأسفل قبل أن أطرح سؤالي: هل تعتقدين أني بثرثرتي الكثيرة أعطي غيري فرصة التدخل في حياتي؟ نفضت والدتي الماء عن يديها وقالت: أظن انه يعتمد على الشخص، لكنه بالطبع سيعطي انطباعًا بأنك مستعدة للإجابة عن أي سؤال.
هل هدمت حدودي التي بنيتها بيدي؟
ساورتني هذه الفكرة مؤخرًا عندما طُرح عَلي سؤال اعتقدت أنه من الجرأة أن تسأله لأحد، لفترة قصيرة قلت لربما يكون هذا خطأ السائل لأنه لم يتعلم التفريق بين أنواع العلاقات في حياته، ثم، وتطبيقَا لنهج وضعته لنفسي بأن لا أشير أصابع الاتهام لغيري على الفور وان احاسب نفسي أولًا، تذكرت أني كثيرة الكلام مع الجميع وليس فقط مع المقربين، فهل كنت من وضع نفسه في هذا الموقف؟
ماهي الحدود؟
نحن كبشر بطبيعة الحال كائنات اجتماعية، ولكننا نحتاج لتفردنا أيضا لذا وضِعت الحدود، وهي ضوابط وقواعد نرسمها في علاقتنا ونجعلها واضحة للطرف الأخر سواءً بشكل مباشر او ضمني، وصُممت هذه الضوابط لكي تجعل الطرف الأخر يعاملنا ونعامله بالطريقة المناسبة.
كيف ترسم حدود لتحيط بها حياتك الشخصية؟
اقترح أن تبدأ باحترام حدود الأخرين -فلربما يكون الشخص المقابل ذو بصيرة ويعاملك كما تعامله- في الأمور المسلم بها: السؤال عن علاقاتهم العاطفية، حالتهم المادية، أو عن أي شيء يبدو واضحًا أنهم يتجنبون الخوض فيه. أما عن بعض أنواع الحدود المخصصة كوقت الراحة إذا كنت موظفًا أو ساعة لنفسك إذا كنت أحد الوالدين فهذه تعود لشخصك ويُفضل أن تكون واضحًا جدًا في تحديدها لأنها مخصصة لك وربما الطرف الاخر قد لا يعدها حدًا. رسم الحدود مُهمة مُضنية لأنك تشعر في بادئ الأمر بأنك تدفع من حولك واحبائك بعيدًا عنك، لكنه العكس تمامًا فأنت تقلل من احتمالية الخوض في مشكلات كبيرة معهم في حال انفجارك بسب اعصابك التي أُتلفت بمرور الوقت كونك قد وضعت حياتك كماء السبيل.
أول خطوة لرسم الحدود الصحية هو قول الكلمة المحرمة ” لا”، وقع هذه الكلمة على الآذان صعب جدًا لكنك بحاجتها، فعندما يُطلب منك فعل شيء ينافي دينك، قيمك، او حتى يُشعرك بالضيق فقط، اخرجها من جيبك الخلفي -وأعصر على نفسك زيتونة- وقل لا. إحدى مقاطع التواصل الاجتماعي جذبني فيها حديث الممثلة إليزابيث أولسن عن والدها ونصيحته لها أن “لا” هي جملة كاملة وعلى الرغم من كمية الصحة في هذه النصيحة، قد لا أتفق تمامًا؛ فهذا يعتمد على علاقتك مع الشخص: فالغريب المتطفل، الزميل المزعج أو أشباه الأصدقاء يستحقون كلمة واحدة، أما العزيز فإعطاؤه أسبابك هو واجب لدوام علاقتكم.
الخطوة الثانية هي أقل رعبًا من الأولى، ألا وهي التواصل، هذه الخطوة مخصصة لمن لا يمكننا قول ” لا ” لهم كالعائلة -القريبة او البعيدة- والأحباء، تحتاج لتنفيذ هذه الخطوة الى مكان محايد وهادئ وان تتدرب على ما ستقول -في حال كانت مهارات التحدث لديك ضعيفة خصوصًا تحت الضغط- وفقط أعرض افكارك عن بعض المواقف التي أشعرتك بعدم الراحة معه. أعلم جيدًا ان الغالب منا لديه افراد عائلة غير منفتحين على فكرة الحدود ظنًا منهم انها طريقة لإبعادهم وأننا نريد سوءًا إذا طالبنا ببعض المساحة وربما تحصل على صرخة مدوية فحواها ” ما في حدود بين الأهل “، لكني اعتقد ان لكل شيء بداية ولربما بأسلوبك المناسب فد تغير هذا المفهوم وتنجح في مهمتك.
الخطوة الثالثة والأخيرة مخصصة للتعامل مع الشخوص الصعبة الذين لا مهرب منهم -زملاء عمل أو مدير- وربما حتى مع افراد العائلة او الأقارب من فشل معهم التواصل، هناك طريقين يمكنك المسير فيهم إما محاولة تغيرهم أو تغيير نفسك. شخصيًا أُفضل أن احفظ طاقتي وأوجهها نحو تحسين نفسي لذا تغيير نفسي سيكون أفضل، السر هنا يكمن في التكيف والبُعد عن التوقعات المسبقة، إذا سألك زميلك عن راتبك الشهري يمكنك إما ان تصمت وتجعل هذا الصمت محرج بالنظر اليه أو ان تضحك بالإجابة ” ما يكفي لدفع الفواتير”، أي نوع من الردود على هذه الشاكلة التي لن تصنع مشكلات في بيئة العمل ستفي بالغرض. وأخيرًا، جميعنا قد مر علينا الحديث الشريف ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيِه مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ))، لكن هل جميع من حولك يطبقه؟ -يمكنني الإحساس بهزات رأسك بالنفي- في رأيي الشخصي انا اتعامل مع جميع من حولي كما أُمرت في الحديث فيما عدا القليل ممن يَصعُب عَلي جدًا ان أكون لطيفة حولهم لذا أعمل بشيء سمعته في إحدى ورشات فينيسا فان ادوارد صاحبة أحد أكثر الكتب مبيعًا (captivate) عندما تكلمت خصيصًا عن الحديث الشريف وكونه قاعدة ذهبية تَعلمتها من الصغر -لكن بالطبع لم تذكر أنه حديث شريف- وشاركت رأيها في قاعدة بلاتينية يمكنك استعمالها لتجنب الصدام مع الشخوص الصعبة (عاملهم كما يُعاملون أنفسهم).
ماهي المشاركة الزائدة؟
تخيل معي أنك سقطت في حفرة الأرنب الذي سقطت فيها اليس قبل ان تصل لبلاد العجائب، ولكن الفرق أنك لم تصل قط بل واصلت القفز الحر لدرجة انك نسيت شكل نقطة البداية، ببساطة هذه المشاركة الزائدة. انت تجلس امام شخص فتبدأ بالحديث بِلا استراحة ماء -ومما يزيد الأمر سوءًا أن يكون من معك منصتًا جيدًا- فتدخل في موضوع وتخرج من أخر وقبل ان تستوعب، تكون قد رسمت خارطة حياتك كلها امام ذاك الشخص -غريبًا كان أم قريبًا- ولم تترك أي مجال للمُخيلة. تكون هذه المشاركة سلبية عندما تبدأ بالكلام في موضوع بعيد كل البعد عن حياتك ثم تبدأ بسرد تفاصيل تكون عادةً شخصية، كلقائك الأول مع شريكك، مشكلاتك الصحية، العائلية، المادية، أو حتى تعديك لحياة غيرك كونك انتهيت من تفاصيل حياتك. ببساطة المشاركة الزائدة هي عدم وجود مُرشح لكلامك او لاختيارك للشخص الذي ستشاركه هذه التفاصيل وقد يُعزى هذا لأسباب كثيرة: انت لا تمتلك الشخص المناسب -لذا تعطي كل شيء لأول أذن تصغي- ، تريد لفت الانتباه وتسليط الأضواء عليك، ربما اعتقدتْ أنها الطريقة الصحيحة لكسب مودة الاخرين وقربهم، وأخيرًا ببساطة انت صاحب فم كبير يكره الصمت الذي يغلف الغرفة.
هل مشاركتي الزائدة تهدم حدودي مع الآخرين؟
لقد وصلنا الى لبّ الموضوع بعدما توضحت لنا أهم محاور هذا السؤال (الحدود و المشاركة الزائدة ) ، قبل أن أجيب لدي اعتراف قد يعطي لإجابتي جرعة كبيرة من المصداقية ، انا كُنت -والحمد الله لاستعمالي الفعل الماضي- مفرطة في المشاركة الزائدة ، في بداية الموضوع ذكرت أني ثرثارة لكنني كنت ابتعد عن ما يخصني والتزم في حديثي عن ما قرأت ، شاهدت ، أو تعلمت ، لكن مع مرور الوقت وخصوصًا في فترة عمرية معينة من حياتي بدأت بالغوص عميقًا وقدمت تفاصيل حياتي على طبق من ذهب لبعض من لا يستحق معرفتها ،شُكرًا لله لم تكن تفاصيل خطيرة لكنني سأفضل لو أبقيتها لنفسي. لذا الإجابة ستكون نعم، ثرثرتي الزائدة و الغير مُوَجهة أدت بي لدفع حدودي و فتح المجال للسؤال و التعليق على ما يخصني، لذا عزيزي القارئ إذا كنت محبًا للكلام عليك تَعلُم توجيهه و فلترته ، خذ استراحة صمت بين كل موضوع تفتحه، استَمعْ للأخرين و سِرّ على وتيرتهم ، استمتع وشارك ما تريد مشاركته لكن أحفظ حدودك و حدود غيرك.
شكرًا لكِ ! لديك العديد من المعلومات المفيدة و المتعلقة بحياتنا كبشر استمري بهذا العطاء الرائع
دعيني أبدأ برد الشكر لكِ ، دعمكِ يرسم ابتسامة عريضة على وجهي.