المُر الحلو ، سُررت بِلقائك

ُهنالك جمال يسكن بين طيات الحزن الذي يُغلف لحظات الوداع، لكن يمكن للمُشاهد من بعيد أن يلتقط هذه اللحظات الأخاذة. دموعي ليست وداعًا حزينًا ، بل سرور بالتعرف عليك.

دخلتُ على والدتي الجالسة في المطبخ وتناولت كأسًا من الماء وحدقت فيها بينما هي منغمسة في هاتفها، أكملت الوالدة تصفحها بينما قالت:” الظاهر عندج سالفة” وضعتُ كأس الماء على طاولة الطعام ثم بدأت :” غدًا ستغادرنا إحدى موظفات الاستقبال في المستشفى ، لقد كانت موجودة منذ يومي الأول” ، مازالت عينا أمي على الهاتف لكنها قالت :” ولماذا ، هل حدثت مشكلة؟” رددت :” لا أظن هذا، لربما ارادات وظيفة براتب و مميزات أفضل ” انزلت أمي هاتفها وهزت رأسها موافقة:” نعم هذا منطقي جدًا”، عمَّ الصمت قليلًا لكنني قاطعته بالإجابة عن سؤال لم يُطرح علي :” صحيح أنيّ لم أعرفها جيدًا و حد علاقتنا يقف عند صباح الخير وبعض الممازحات العشوائية، لكني أشعر بقليل من الحزن ” ابتسمت أمي وقالت : ” هذا طبيعي لأنج تعودتي عليها”.

من أنت ؟ أنت كائن اجتماعي

قال الله تعالى في سورة الحجرات (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) و هذا حث إلاهي بأهمية تكوين العلاقات الاجتماعية ، في أي مكان في هذا الكون الفسيح ستكون بالطبع محاط بالبشر من كل حدب وصوب ، عندها سيُصبح أساسيًا أن تَنشئ مختلف أنواع الروابط بينكم مهما كانت سطحية، بدايةً لديك المدرسة ،ثم الجامعة ، النادي الرياضي ، مراكز حفظ القرآن ، الأنشطة الاجتماعية و أوسعهم العمل ، الذي سأركز عليه هنا كونه علاقة خفيفة ،قليلة المسؤولية ، منخفضة الروابط والتكاليف، لكنها تُعلمنا دروسًا قيمة و تكوّن فينا شعور لحظي بالسعادة . نحن مخلوقات حية و من أهم صفاتنا التي تقابل الإنتاج ( المتراجع في الآونة الأخيرة) هو الاستهلاك، وعملة الاستهلاك هي المال. العمل بتعريفه الدارج هو أن تقوم بخدمة مقابل عائد مادي ، في مملكتنا يعمل الموظف بمتوسط ثمان ساعات في اليوم يقضيها وسط الزملاء والمدراء مهما كانت مهامه، لذا صباحًا سيمر بأحدهم و خلال الظهيرة سيطلب مساعدة احد اخر و قبل الذهاب للمنزل سيسلم عمله لمن يخلُفه ( وظيفة لها مناوبات) ، لذا الثابت خلال يوم العمل هم زملاء العمل. قبل بدئي بتحبيبك قارئي العزيز بالعلاقات الصغيرة تلك، أريد وضع ما قد يبدو جليًا للبعض لكن وجب التذكير بأن كل ما يقال هنا هو وفق للضوابط الأساسية التي اتفقت عليها امة الإسلام : آداب الحديث وخصوصًا في حال الاختلاط ، الأمانة، حسن النية و تجنب المشي بالنميمة او الانخراط في الغيبة ( التي اعلم جيدًا سهولة انزلاقها من ألستنا).

المحادثات الجانبية هي المنجية الكبيرة

قد نقضي في أعمالنا وقت أطول مما نقضيه مع عائلاتنا، ومهما حاولنا الموازنة فالتساوي المثالي لن يحصل ، لذا نحاول أن نُعطي كل ذي حقٍ حقه. عندما أجلس بين الموظفين خارج أوقات عملهم لا تخلو محادثاتهم من التململ و التأفف من وظائفهم ” أنا اشعر بالضيق ، أشعر بالوحدة والملل ، ساعات العمل طويلة” ، وتطول القائمة التي أتمنى أن يكون لها نهاية ، فيتبادر الى ذهني سؤال شاركتهُ معهم: هل تسألون من حولكم عن حالهم أو تأخذون خمسة دقائق من يومكم لتسألوهم عن مخططاتهم لنهاية الأسبوع ؟ فتبدء الوجوه بالتغير كأنني قلت شيئًا خاطئًا جدًا و تنهال عليّ الإجابات : هل نحن أصدقاء؟ كيف أثق بهم ؟ إذا عاملتهم بلطف زائد سيظنونني ضعيف ويستغلوني ، وبينما وابل الإجابات الحادة يجرحني من كل صوب ، فتلك الجِراح لم تؤلمني أكثر مما أشعرتني بالحزن و الشفقة على هؤلاء الناس، فمن هذا الذي آلمهم لهذه الدرجة حتى تكون انطباعاتهم الأولى هكذا ؟ وكيف عاشوا كل هذه السنين بدون التعافي من الماضي. لا ملامة عليك إن كنت حذرًا ، قال رسولنا الكريم صلوات الله عليه ( لا يُلدَغُ المؤمنُ من جُحْرٍ واحد مرتين) ، لكن أليس هنالك إما مبالغة في اللطف أو الصد ، ألا يوجد ما بينهما؟ سؤال سطحي بطريقة محببة مع الابتعاد عن التعمق في التفاصيل لن يعطي الشخص الذي امامك سكينًا كي يطعنك في ظهرك.

هذه الروابط الصغيرة تجعل يومك الطويل في العمل اكثر امتاعًا وراحة ، ستجد نفسك أيضًا تنجز أكثر بل وبجودة أفضل! شخصيًا أنا فخورة جدًا بتركي لأثر و لو بسيط في كل موقع تدريب كنت فيه؛ لأنني قمت ببعض اللفتات التي جعلت بيئة العمل أو التعلم بالنسبة لي أسهل و أمتع و يسعدني أن اشاركها معك قارئي العزيز، أولًا : السلام عند الدخول مع السؤال عن الحال ، قد تبدو هذه النقطة بديهية بعض الشيء لكنك ستنصدم من كمية الناس التي إنْ اعتادت على المكان توقفت عن السلام. ثانيًا : مشاركة البهجة في المناسبات الدينية، أحب حقًا أن أقوم بتوزيعات بسيطة عند حلول شهر رمضان ، العيدين، المولد النبوي و رأس السنة الهجرية حتى لو كنت في بيئة غير مسلمة ، لأنه سيصنع نوع من الألفة بين الأفراد. ثالثًا : السؤال عند الغياب ، عندما يبتعد احدهم لفترة اسأله لماذا؟ فإن اجابك باختصار لا تُلح فقط أبدي سعادتك بعودته سالمًا . رابعًا : اصنع محادثة قصيرة ، يمكنك التكلم عن الطقس ، كتاب يحمله شخص امامك ، شيء مميز يرتديه و دعه يحدثك عنه لدقائق قليلة ولا داعي للانغماس. و لا تنسى الابتسامة ، مهما كانت حياتك الشخصية مُتعبة فغيرك لا ذنب لهم فيها ، لا داعي ان تكون مهرج المكان لكن ابتسم بلطف فلربما غيرك يتظاهر أيضًا و يحتاج الى وجه مبتسم يساعده على إكمال يومه ، هكذا انت ساعدته لذا سيساعدك أحدهم يومًا ما ، فإن الله بصير بالعباد.

ما بين الانطواء و الانفتاح

كوني أطمح أن أكون كاتبة عليّ تقبل فكرة العُزلة لفترات طويلة لتسنح لي فرصة التحليق في سماء أفكاري بعيدًا عن مطبات الواقع و عوائق التعليقات، لكنه صعب عليّ قليلًا لأنني أعتقد أن إلهامي يأتي عندما أكون محاطة بالناس ، ففكرة هذه التدونية جاءتني عندما كنت أتحدث مع زميلة عمل ، لكن في نفس الوقت أنا اكتب هذه السطور منزويةً في غرفتي . كما ذكرت سابقًا ، أشعر بأننا في وقت حيث المشاعر إما أن تكون عارمة أو في حالة سبات وما لفتني مؤخرًا انتشار نوع من الانطوائية المصطنعة هدفها جعلك محط الأنظار و تُسّوقك كأنك شخصية غامضة ، وصدقًا معظمهم يبدون مزيفين بطريقة مضحكة ، تُحرّض هذه الحركة على أن لا تبدي اهتمامًا بأي شيء من حولك ، لا تحفظ أسماء الأخرين فتفرقع اصابعك متظاهرًا بأنك تحاول التذكر ، لا ترد على أحد بسرعة لتبدو مشغولًا ، تعتذر عن مواعيدك من غير سبب ؛ متحججًا بفكرة أن “لا” هي كلمة كاملة ولكنك فهمت الموضوع بشكل خاطئ تمامًا ، و صدقًا هنالك الكثير من الشروط الأخرى التي لا تستحضرني الأن لكن أظن أني رسمت صورة واضحة للفكرة المطروحة. إني أرجوك من أعماق قلبي بان لا تضع نفسك محط للغيبة و مادة للسخرية ، وهذا أيضًا يُهين من هم انطوائيون حقًا. أما في الكفة الثانية من يحاول بكل ما آتاه الله من أنفاس بأن يكون محبوب الأمة ، فيرمي النكات و يصنع الحركات لجذب الانتباه ، على عكس الفئة السابقة ، فأنا أشعر بالسوء تجاه هذه الفئة ، مزيفو الانطواء يمكنك ببساطة تجاهلهم ولربما يعودون لوعيهم ؛ لان بِساط الانتباه سُحب من تحت اقدامهم ، أما عُث الانفتاح فأنا شخصيًا من باب الأدب أتظاهر بالضحك حتى لا يشعروا بالسوء ، و بالطبع هناك غيري كثير من يفعلون ذلك ، لذا سيستمرون بنشر روح دعابتهم وهم لا يعلمون أن الضحكة الحقيقة عليهم لا لهم.

شخصيًا أنا قابلت هذين النوعيين و تفاعلت معهما و فقرة واحدة لا تشفي غليل قلبي لوصفهما ، لكن و من باب الأخوة في الإسلام ولأن هدفي الأعلى هو نشر الوعي والمحبة والتقدم للأمام أرجو منك قارئي ان تراجع نفسك قليلًا فلربما انسقت قليلًا لاحد هذين الدورين ، أنا لن أطلب منك إرسال هذه التدوينة لمن تظن أنهم ينطبق عليهم هذا الكلام ، وإن فعلت ، فاعذرني لكن هذه تُعتبر وقاحة ، لذا يُفضل أن تراجع نفسك لا غير . إن كنت ولِدت إنسانًا اجتماعيًا بشهادة من حولك فقم بما عليك القيام به ، نعم سيكون لك كارهون هذا طبيعي ، أيضًا لربما من أظن أنهم عث الانفتاح هم اجتماعيون حقًا و أنا من فهمتهم خطئًا . أفضل نصيحة يمكنني أن أقدمها ، هي أن تجعل مشاعرك حقيقية ، لا تبالغ فتختل كفة التوازان ، إن كنت تطير من الفرح عبّر، لكن إن كنت حزينًا فابتسم بصمت ، وتجنب المحادثات حتى تُفرج عليك.

تَبلّد المشاعر أصبح ترندًا !

” يجب أن لا تتعلقي بزملاء العمل فهم يتغيرون كل فترة ” قالتها لي إحدى الزميلات السابقات قبل رحيلها و كانت هي التجسيد الحقيقي لتبلُد المشاعر مع الغير ، لربما هي مرهفة المشاعر مع المقربين منها لكن يشق عليّ تصديق هذه النقطة ، فهل حقًا من السهل التقلب في المشاعر بين الناس بهذه السرعة و الكفاءة ؟ قد يكون سهلًا أن تكون أكثر احترافية في العمل منه فالمنزل ، لكن الاحترافية لا تعني التبلد . رددت على زميلتي السابقة بقول جعل عينيها التي لم أرى قط فيهما غير التهكم الفكاهي دموع غير منهمرة :” أنا في حالة حزن-سعيدة ، نعم سترحلين لكنني كنت سعيدة بلقائك وسأعتز دائمًا بكل فكاهة أو موقف حصل بيننا”. أن لا تظهر مشاعرك هي القاعدة الذهبية التي ستُنصح بها في وقتنا الحالي ، وستسمع من الأسباب ما سأذكر بعضه هنا : أولًا ، السخرية منك بأنك ضعيف شخصية، ومنذ متى كانت رهافة المشاعر ضعف؟ الصدِيق رضي الله عنه كان أرهف الناس شعورًا و أشدهم عندما يأتي الأمر لدينه و ذكري إياه خصوصًا كونه أشتهر بهذا ، لكن كل صحابة الرسول رضوان الله عليهم من بكى و حزن لكنك ستجد أيضًا في شدتهم ما ترتجف منه الأجساد. ثانيًا ، إذا كنت رجلًا ستنعت بالفتاة و إذا كنت امرأة ستنعتين بالمُبالِغة ، لا يخفى علينا الرؤية المجتمعية للمشاعر وتقسيمها بحسب الجنس لذا لا داعي للاستفاضة فيه. ثالثًا هل تبحث عن أصدقاء؟ السؤال الذي يُقال بسخرية ، لربما الإجابة تكون نعم ، قد يتحول أحد زملاء العمل الى صديق لأنك اكتشفت فيه صفات تربطكما ، لكن يُفضل أن لا يكون هذا هدفك من صنع علاقات عمل ، إن حصل بتلقائية فخير وإن لم يحصل فهذه هي النتيجة المرجوة أساسًا ؛ علاقة بسيطة خفيفة تسهل عليك يومك.

كُن كنسمة ربيع

كن في مجتمعك المفتوح، اللطيف الذي لا عداوة له ، المحبوب من الجميع والمريح في التعامل معه ، المرغوب في الجماعات و المؤتمن بين الأفراد ، لكن ورغم استقامتك وصفاء نيتك ، سيكون هنالك من يحاول ثنيك عن الطريق ، فلك في هذا البيت الشعري للصفدي قاعدة:

وإنْ بُليتَ بشخصٍ لاَ خَلاقَ لهُ فكُنْ كأنَّكَ لمْ تسمعْ ولمْ يَقُلِ

التجاهل ، الكلمة التي أود لو كان الوشمُ حلالًا لزينت بها ذراعي خصوصًا للشخوص الذين تُجبر على التعامل معهم ، لكن طبعًا إذا طفح الكيل و بلغ السيل الزبى فلا تنسى هنالك دائمًا مدير للموارد البشرية. استمتع بعملك ودعه يكون ذكرى جميلة تُدفئ جسدك المتقاعد بعد سنين طويلة ، لا تنتظر النهاية بفارغ الصبر ، فما تنتظره هو نفاذ عمرك وشبابك.

كُتبت من مصدر واحد : حياتي.