إنها السادسة صباحًا وأصوات القصف، الصراخ والبكاء الممتزج بالعويل يُصارعون الجدران للوصول لأذني حتى يقض عليّ نومي الهانئ، رتبت سريري الوافر أنا الناجية من كل ذلك، ثم تتبعت مصدر الأصوات التي تنادي عليَّ بالتصرف، لأرى والدتي تستمع للأخبار على التلفاز بينما عينيها منصبة على هاتفها، لذا أصدرت صوتًا حتى تلحظ وجودي ثم قلت:” كيف أصبح الوضع الأن؟” ردت أمي بنبرةٍ غاضبة :” قصفوا مستشفى”. جلست بجانب والدتي لأشاهد المقاطع المصورة لأجسام صغيرة حُرِمت من تجارب الحياة القادمة مرمية كأنها بلا قيمة -جماعة الطاقة الإيجابية، نحتاج واقعية هنا لأنه الحياة الوردية هي ما أوصلتنا لهذا الحال-. مازالت عيني معلقتين على التلفاز لكن تحركت شفتاي بسؤال:” ما رأيك بموقف الحياد في هذا؟”، أظن ان النظرة التي أُعطيت لي كانت كافية كرد، لكن عزيزي القارئ بما أنك لست معنا سأترجم فحواها ” حياد ؟ أكو حياد بعد ما تشوف هكذا مناظر، حتى الصمت يعتبر خيانة!”
كَرِهْتُ لَكَ الْوُقُوفَ عَلَى الحِيَادِ * وَعُرْسُكَ لاَبِسٌ ثَوْبَ الحِدَادِ 1
على الورق، ما هو الحياد؟
بعد البحث، نجد في معجم اللغة العربية المعاصرة تعريفًا للحياد ألا وهو عدم الميل الى طرف من أطراف الخصومة أي انه لم يتخذ طرفًا يُفضله على الأخر. أما من منظور سياسي وقد أقره المجمع اللغوي المصري : هو مذهب سياسي يقوم على عدم الانحياز الى كتلة سياسية من الكتل المتصارعة في الميدان السياسي. إذًا و ببساطة الحياد هو أن تقف ساكنًا تهز رأسك بين طرفين ( أيًا كانا) ولا تحرك ساكنًا للتدخل ولو بكملة.
انجو بنفسك، كن حياديًا
سألت إحدى المقربات مني ما رأيك في الحياد، فدار بيننا النقاش التالي:
العزيزة: الحياد ضروري في كثير من الأحيان خصوصًا في حال خوفك من خسارة أحد طرفي النقاش لأنهم عزيزين على قلبك.
أنا: إن كانوا عزيزين عليّ و يتم تقديري من جانبهم سيحترمون أن لي رأيًا و انحيازي لأحد الطرفين ليس لشخصه بل لأني أراه أصوب في اختياره.
العزيزة: خذي هذا المثال ، والدتي وأختي في نقاش دائم عن موضوع ما و في كل مرة يُلحان عليّ باختيار جانب فكيف سأختار؟
أنا: أي الرأيين تريه أصوب؟ يمكنك أخباري.
العزيزة: هذه هي المشكلة الثانية، فلست أخاف فقط على مشاعرهما بل أيضًا أعتقد ان لكلتيهما حُججًا قوية وليستا على خطأ.
أنا: حقيقةً هذا مستحيل، أنا مقتنعة تمامًا بأنكِ تميلين لرأي أكثر من الأخر مهما كانا متقاربين فالصحة، لكنكِ تفضلين النجاة على أن تشاركي رأيك.
العزيزة: سأواصل الحياد فلا طاقة لي بإغضاب إحداهما.
تجاربنا الأولى أكثرها منزلية ، فنظرتك للحياد تتكون بسبب بيئتك التي نشئت فيها. لنفترض أنك ولدت لعائلة تُشعرك منذ الصغر بفداحة تصرفك عندما تنحاز لشيء هم لم يختاروه لذا وخوفًا من أن يتم نبذك تقرر أن تكون في الوسط، لا تعبر عن ارائك، أنا لستُ أمًا ولا امتلك خبرة في التربية لكنني أظنه خطئًا فادحًا أن تطمس اراء طفلك بهذا الشكل -يستغرب الآباء لاحقًا لماذا يتجنب الأبناء قضاء الوقت معهم-. بالطبع واجبك كمربي أن توجه أبنك للطريق الصحيح ، لكن حتى الطريق الصحيح له أكثر من مدخل وكونك غرست القيم والأخلاق القويمة فيهم دعهم يختارون لأنفسهم، ولا ضير من مناقشة اختياراتهم فلربما هم يُقنعوك أو انت تصحح وجهتهم.
الحياد طريق للنجاة التي لها وجه أخر وهو اللامبالاة، غض النظر عن موقف يُمحيه من حياتك و قد سمعت حججًا كثيرة أجملها : أنا لا أعرف شيء عن هذا الموضوع أو معرفتي سطحية، وتراه يقولها كمن لديه ورقة رابحة لُيسكِتك بها، ستقول عزيزي القارئ بأنك ستجيبه : ابحث عن الموضوع وتعلم عنه ، لكن الغطريف سيُجيب : كيف لي أن أثق بالأنترنت؟ لربما تكون المعلومات محرفة؟. في الواقع النقطة الأخيرة قد تُسكتنا قليلًا لان الاعلام يمر بحالة تزييف وتلاعب شنيعة وهذا يضر خصوصًا من يصدق أي كلمة يقرأها ولم يتعد القراءة والبحث سابقًا، لكن لكل مشكلة حل ، عندما تبدأ مشكلة جدلية بالظهور يمكنك الاستفسار من شخص تثق بآرائه وله علم بالمصادر الصحيحة ودقة في تنقيح ما يقال أو يمكنك أنت شخصيًا ان تتعلم كيفية البحث والاستنتاج ، وصدقًا عندما تسمع صوت الحق ستعرفه لأنه الصوت الأعلى بين الجموع.
” إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت أو الصمت من ذهب؟”
وَقَدْ تَنْطِقُ الأشياء وَهْيَ صَوَامِتٌ * وَمَا كُلُّ نُطْقِ المخبرين كَلَامُ 2
أن تسكت هو أن تترك الكلام، لكنك تقدر عليه وهذه الأخيرة هي ما تفرقه عن الصمت فالقدرة عليه غير معتبرة فيه فهو خلو الصوت. عند السكوت أنت تحرم الحق من الخروج وتساويه بالباطل لذا لا تقل عن نفسك أنك اتخذت الصمت حكمةً منك ، لأن رسولنا الكريم صلوات الله عليه وسلامه قال: (( من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيرًا أو ليصمت)). الكثير ممن سيقرأ ما كتبت سيصف هذا بالمثالية و أن ما ينقص هذه السطور هو قول “الساكت عن الحق شيطان أخرس” و الحق كل الحق إذا قيل هذا الكلام فأنا من مؤيدي نقد علي الوردي للوعاظ الذين ينصحون من على برجهم العاجي ويأتون بحلول لا قرب لها من الواقع، لذا سأقدم بعض الطرق التي يمكننا الابتعاد بها عن سكوت الجبناء وصمت الجمادات. أولًا ، لا يخفى علينا التأثير القوي الذي تملكه وسائل التواصل الاجتماعي علينا لذا نشر آرائك ووجهة نظرك والقصص الموثقة التي تروي حال المظلومين أو أصحاب الحق ، أيضًا يمكنك تذكير المسلمين بآية متبوعة بصورة تدعم فيها الحق وتذكرنا فيه. ثانيًا للأفعال صدى أعلى من الأقوال، لنقل أن موقفًا سلبيًا حصل أمامك يمكنك بكل بساطة الوقوف امام مسبب الفعل و تقوم بعكس ما قام به ، رأيت أحدهم يرمي أذى على الطريق قم و زِحه ثم توجه لرميه وبادله بابتسامة تشعره بخطئه . ثالثًا، ان كنت لا تعرف كيفية التعبير عن رأيك بطريقة صحيحة يمكنك ببساطة دعم من تراه يوصل صوتك بطريقة صحيحة ( ريبوست انستاغرام أو ريتويت أكس) يمكنك أيضًا مشاركة دعمك في المجالس فعندما تسمع أحدهم يدعو الى رأي سديد شجعه.
حاولت كثيرًا أن استوعب من يمتلك حسابات في مواقع التواصل الاجتماعي و يتخذها منارة للمراقبة و عندما أسألهم عن سبب فعلهم هذا يقولون : أنا لا أشارك افراحي ولا أحزاني فقط أشاهد، او قد يقول بماذا ستُفيد مشاركتي؟ و أحب أن أرد عليك بأن مشاركتك على مشاركتي ومشاركات عائلتك وعائلتي وهكذا .. ستُحدث فرق ، فرجاءً لا تختر السكوت لأنك باختياره حسِبناك مع الجانب الظالم ، و أيضًا لا تخلط الصمت بالسكوت.
الفيل الذي يحاول الاختباء في هذه التدوينة
ليس من الصعب ربط الخيوط ببعضها واكتشاف سبب اهتمامي المفاجئ بهذا الموضوع، في السابع من الشهر العاشر، استجدت الاحداث في فلسطين بعملية طوفان الأقصى كردة فعل طبيعية جدًا لكل الظلم الحاصل لهم طوال 75 عام -لكل فعل ردة فعل مساوي له فالمقدار ومعاكس له فالاتجاه- وإن كانت القوى مع الأسف غير متساوية، فالكيان الظالم له من العدة والعتاد ما لا يُحصى أما مقاومتنا فما لها غير الحائط -وظل راجل ولا ظل حيطة- العوض لله هو حسبهم وربي يزرع الثبات في قلوبهم. ربطًا بموضوعنا ، لاحظت كثيرًا بإن من حولي أو على منصات التواصل لم يكلفوا على أنفسهم بإعادة نشر ما يحدث ليدعموا القضية! فترى تواجدهم الإلكتروني حيادي ( حتى وضع صورة العلم صعبة)، وعندما تحاول سؤالهم عن سبب عدم مشاركتهم يردون:” كل مرة أشوف الصور قلبي يؤلمني فأدعي لهم” ، أعزاءي أصحاب القلوب المرهفة كيف سيعرف العالم ما في قلوبكم إن لم يكن على ألسنتكم؟
ساهم الكثير من صناع المحتوى جزاهم الله كل الخير والتوفيق بتفسير لوغاريتمات منصات التواصل وكيف أن منشور واحد له كل التأثير ، إضافةً لهذا شدد الإعلاميون الصالحون على إغراق المنصات بالحقيقة لمحاربة الإعلام المزيف الذي يُبث من جانب العدو. يتحسر قلبي على حالنا عندما أمر على حسابات كأنهم في بعد زماني أو كوكب أخر ، فهم لا معنا ولا علينا متواجدون فقط ليملئوا الفراغ. القضية والحرية الفلسطينية ليست جدالًا دينيًا دقيقًا يحتاج الى عالم ولا مناقشة سياسية شائكة تحتاج الى محلل، إنها ببساطة قضية قوم لا وطنَ لهم ولا شعبٌ يرغب بهم، أحتلوا قومًا محاولين محو وجودهم ليحلوا محلهم بيننا.
زملائي في المجال العلمي ، استمروا في عدم الانحياز
كل قاعدة لها استثناءات والحياد مرغوب في عدة أوجه أهمها البحث العلمي. كباحث أنت لا يمكنك تقديم دراسة علمية قائمة على التجربة و التحيز واضح فيها لنظريتك الأولى ، يجب أن تضع الاختبارات والتجارب التي تقيس بدقة صحتها. صدقًا عدم التحيز في البحوث العلمية صعب جدًا فأنت تحاول أن تثبت نظريتك بشدة مما قد يؤدي بغير قصد لوضع اختبارات تدعم نجاح نظريتك وهذا يضعف الورقة البحثية بشدة.
الحياد وخصوصًا الصمت يكون مرغوبًا أيضًا في المواضيع الشائكة التي لا علم لك بها وليس شيئًا واضحًا كالظلم و النهي عن المنكر، في حالة عدم إلمامك بالموضوع فابتعد عن الإفتاء واتركه لمختصيه. لنفترض أن لك معرفة قليلة وتريد تقديم رأيك فلا بأس، لكن يجب أن تتذكر مهما كان الرد الذي ستحصل عليه يجب ان تتحمله لأنك شاركت وهذه مسؤوليتك. حالة أخرى أود إضافتها وهي تجربة شخصية ، التعامل مع النرجسيين وليس كل الأنواع لكن فقط نوع “القول بلا فعل”، ادعهم يتكلمون براحتهم ولا أضيف أي تعليق لأن النقاش معهم عقيم-انت لا تنبح عندما ينبح عليك كلب-.
أعلم ، الحياد منطقة راحتك
قد تكون مررت مؤخرًا بمنشورات يصرخ فيها عدة مؤثرين بالخروج من منطقة الراحة لأن البقاء فيها يعني الفشل، علينا التحرر منها والجري وراء اهدافنا ، لكن ماذا لو كانت تلك المنطقة هي ما نطمح اليه ؟ أن تكون في منطقة راحتك هو ببساطة أن تكمل بحياتك بهدوء حتى يأخذ رب العباد أمانتك، وخلال هذه المدة الدنيوية أنت تعمل و تؤسس عائلة وتعتني بهم بهدوء حتى يأتي هذا اليوم ، يوم الظلم ، عندما يؤخذ منك كل شيء وانت تقف لا تعرف ماذا تفعل لأنك تعودت على الراحة المبالغ فيها مع عدم اتخاذ قرارات واضحة ، الكثير منا سيقول ” عندما سيأتي الظلم سأتكلم” لكنك لن تفعل. برأيي الشخصي ، الخروج من منطقة الراحة ليس بالضرورة الاستقالة من عملك وتسلق قمة إيفرست ، سابقًا كانت منطقة راحتي هي مشاهدة المسلسلات والأفلام طوال اليوم بلا أي انجاز ( غير المدرسي طبعًا) والأن منطقة راحتي هي التعلم والقراءة ثم الكتابة وتنمية مدونتي لأشارك أفكاري مع الأخرين ، انا مرتاحة في الحالتين لكن برأيك أي منهما جودته أفضل؟
يقول الأستاذ ثروت أباظة : إن الحياد أيها السادة أصبح تقليدا عتيقا أشبه ما يكون بموظف ترك الخدمة فأصبح ولا عمل له إلا قهوة وطاولة في انتظار الصباح، وجريدة وشيشة في المساء. . فهو يقضيها أيام انتظار بلا أمل. . ويقطعها أمسيات نوم بلا غد..
استعمال الحياد كطوق نجاة قد يعينك على السباحة لفترة لكنك لن تصل للشاطئ أبدًا، لذا يتوجب عليك الاختيار إما أن تحرك قدميك أو تستلم للغرق أو في أسوء الحالات تنتظر، فينتشلك شخص له قارب فلا تعلم أين سيأخذك بعدها.
المصادر:
- مجلة الرسالة العدد 875 ، مصر بين التكتل والحياد ، الأستاذ ثروت أباظة
- موسوعة الرقائق والأدب ، ياسر الحمداني
- كتاب معجم اللغة المعاصر 1518- ح ي د – احمد مختار عمر
- (1) عِصام الغزالي بتصرف
- كتاب موسوعة الأخلاق الإسلامية – الجزء الأول ص 355
- (2) أبو العلاء المعري.